سورة المائدة - تفسير تفسير الشوكاني

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (المائدة)


        


هذه الآية التي افتتح الله بها هذه السورة إلى قوله: {إِنَّ الله يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} فيها من البلاغة ما تتقاصر عنده القوى البشرية، مع شمولها لأحكام عدّة: منها الوفاء بالعقود، ومنها تحليل بهيمة الأنعام، ومنها استثناء ما سيتلى مما لا يحلّ، ومنها تحريم الصيد على المحرم، ومنها إباحة الصيد لمن ليس بمحرم.
وقد حكى النقاش: أن أصحاب الفيلسوف الكندي قالوا له: أيها الحكيم اعمل لنا مثل هذا القرآن، فقال: نعم أعمل مثل بعضه، فاحتجب أياماً كثيرة ثم خرج فقال: والله ما أقدر، ولا يطيق هذا أحد، إني فتحت المصحف فخرجت سورة المائدة، فنظرت فإذا هو قد نطق بالوفاء، ونهى عن النكث، وحلل تحليلاً عاماً، ثم استثنى بعد استثناء، ثم أخبر عن قدرته وحكمته في سطرين، ولا يقدر أحد أن يأتي بهذا.
قوله: {أَوْفُواْ بالعقود} يقال أوفى ووفى لغتان، وقد جمع بينهما الشاعر فقال:
أما ابن طوقٍ فقد أوفى بذمته *** كما وفى بقلاص النجم حاديها
والعقود: العهود، وأصل العقود: الربوط، واحدها عقد، يقال عقدت الحبل والعهد، فهو يستعمل في الأجسام والمعاني، وإذا استعمل في المعاني كما هنا أفاد أنه شديد الإحكام، قويّ التوثيق؛ قيل: المراد بالعقود هي: التي عقدها الله على عباده وألزمهم بها من الأحكام؛ وقيل: هي العقود التي يعقدونها بينهم من عقود المعاملات، والأولى: شمول الآية للأمرين جميعاً، ولا وجه لتخصيص بعضها دون بعض. قال الزجاج: المعنى أوفوا بعقد الله عليكم، وبعقدكم بعضكم على بعض انتهى. والعقد الذي يجب الوفاء به ما وافق كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن خالفهما فهو ردّ لا يجب الوفاء به ولا يحلّ.
قوله: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأنعام} الخطاب للذين آمنوا. والبهيمة: اسم لكل ذي أربع، سميت بذلك لإبهامها من جهة نقص نطقها وفهمها وعقلها، ومنه باب مبهم: أي مغلق، وليل بهيم، وبهمة للشجاع الذي لا يدري من أين يؤتى، وحلقة مبهمة: لا يدري أين طرفاها. والأنعام: اسم للإبل والبقر والغنم، سميت بذلك لما في مشيها من اللين. وقيل: بهيمة الأنعام: وحشيها، كالظباء وبقر الوحش والحمر الوحشية، وغير ذلك. حكاه ابن جرير الطبري عن قوم، وحكاه غيره عن السدّي والربيع وقتادة والضحاك. قال ابن عطية: وهذا قول حسن، وذلك أن الأنعام هي الثمانية الأزواج، وما انضاف إليها من سائر الحيوانات يقال له: أنعام، مجموعة معها، وكأن المفترس كالأسد، وكل ذي ناب خارج عن حدّ الأنعام، فبهيمة الأنعام: هي الراعي من ذوات الأربع. وقيل: بهيمة الأنعام: ما لم تكن صيداً، لأن الصيد يسمى وحشاً لا بهيمة. وقيل: بهيمة الأنعام: الأجنة التي تخرج عند الذبح من بطون الأنعام، فهي تؤكل من دون ذكاة، وعلى القول الأوّل، أعني تخصيص الأنعام بالإبل والبقر والغنم، تكون الإضافة بيانية، ويلحق بها ما يحلّ مما هو خارج عنها بالقياس، بل وبالنصوص التي في الكتاب والسنة كقوله تعالى: {قُل لا أَجِدُ فِيمَا أُوحِىَ إِلَيَ مُحَرَّمًا على طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلا أَن يَكُونَ مَيْتَةً} الآية [الأنعام: 145]، وقوله صلى الله عليه وسلم، «يحرم كل ذي ناب من السبع ومخلب من الطير»، فإنه يدل بمفهومه على أن ما عداه حلال، وكذلك سائر النصوص الخاصة بنوع كما في كتب السنة المطهرة.
قوله: {إِلاَّ مَا يتلى عَلَيْكُمْ} استثناء من قوله: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأنعام} أي إلا مدلول ما يتلى عليكم فإنه ليس بحلال، والمتلوّ: هو ما نصّ الله على تحريمه، نحو قوله تعالى: {حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة} [المائدة: 3] الآية، ويلحق به ما صرحت السنة بتحريمه، وهذا الاستثناء يحتمل أن يكون المراد به: إلا ما يتلى عليكم الآن، ويحتمل أن يكون المراد به: في مستقبل الزمان، فيدل على جواز تأخير البيان عن وقت الحاجة، ويحتمل الأمرين جميعاً.
قوله: {غَيْرَ مُحِلّى الصيد} ذهب البصريون إلى أن قوله: {إِلاَّ مَا يتلى عَلَيْكُمْ} استثناء من بهيمة الأنعام، وقوله: {غَيْرَ مُحِلّى الصيد} استثناء آخر منه أيضاً، فالاستثناءان جميعاً من بهيمة الأنعام، والتقدير: أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم إلا الصيد وأنتم محرمون. وقيل: الاستثناء الأوّل من بهيمة الأنعام، والاستثناء الثاني هو من الاستثناء الأوّل، وردّ بأن هذا يستلزم إباحة الصيد في حال الإحرام، لأنه مستثنى من المحظور فيكون مباحاً، وأجاز الفراء أن يكون {إِلاَّ مَا يتلى} في موضع رفع على البدل، ولا يجيزه البصريون إلا في النكرة وما قاربها من الأجناس. قال: وانتصاب {غَيْرَ مُحِلّى الصيد} على الحال من قوله: {أَوْفُواْ بالعقود} وكذا قال الأخفش، وقال غيرهما: حال من الكاف والميم في {لَكُمْ} والتقدير: أحلت لكم بهيمة الأنعام غير محلي الصيد، أي الاصطياد في البرّ وأكل صيده. ومعنى عدم إحلالهم له تقرير حرمته عملاً واعتقاداً وهم حرم، أي محرمون، وجملة {وَأَنتُمْ حُرُمٌ} في محل نصب على الحال من الضمير في {مُحِلّى} ومعنى هذا التقييد ظاهر عند من يخص بهيمة الأنعام بالحيوانات الوحشية البرية التي يحلّ أكلها كأنه قال: أحلّ لكم صيد البرّ إلا في حال الإحرام؛ وأما على قول من يجعل الإضافة بيانية فالمعنى: أحلت لكم بهيمة هي الأنعام حال تحريم الصيد عليكم بدخولكم في الإحرام، لكونكم محتاجين إلى ذلك، فيكون المراد بهذا التقييد الامتنان عليهم بتحليل ما عدا ما هو محرّم عليهم في تلك الحال والمراد بالحرم من هو محرم بالحجّ أو العمرة أو بهما، وسمي محرماً؛ لكونه يحرم عليه الصيد والطيب والنساء، وهكذا وجه تسمية الحرم حرماً، والإحرام إحراماً.
وقرأ الحسن والنخعي ويحيى بن وثاب {حَرْمَ} بسكون الراء وهي لغة تميمية، يقولون في رُسُل: رُسْل، وفي كُتُب: كُتْب ونحو ذلك. قوله: {إِنَّ الله يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} من الأحكام المخالفة لما كانت العرب تعتاده، فهو مالك الكل يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، لا معقب لحكمه.
قوله: {يَأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَائِرَ الله} الشعائر: جمع شعيرة، على وزن فعيلة، قال ابن فارس: ويقال للواحدة شِعَارة وهو أحسن، ومنه الإشعار للهدي. والمشاعر: المعالم، واحدها مشعر، وهي المواضع التي قد أشعرت بالعلامات. قيل: المراد بها هنا جميع مناسك الحج وقيل: الصفا والمروة، والهدي والبدن. والمعنى على هذين القولين: لا تحلوا هذه الأمور بأن يقع منكم الإخلال بشئ منها أو بأن تحولوا بينها وبين من أراد فعلها: ذكر سبحانه النهي عن أن يحلوا شعائر الله عقب ذكره تحريم صيد المحرم. وقيل: المراد بالشعائر هنا: فرائض الله، ومنه: {ومن يعظم شعائر الله} [الحج: 32]. وقيل هي حرمات الله، ولا مانع من حمل ذلك على الجميع اعتباراً بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ولا بما يدل عليه السياق.
قوله: {وَلاَ الشهر الحرام} المراد به: الجنس، فيدخل في ذلك جميع الأشهر الحرم وهي أربعة: ذو القعدة، وذو الحجة، ومحرّم، ورجب، أي لا تحلوها بالقتال فيها. وقيل: المراد به هنا شهر الحج فقط. قوله: {وَلاَ الهدى} هو ما يهدي إلى بيت الله من ناقة أو بقرة أو شاة، الواحدة: هدية. نهاهم سبحانه عن أن يحلوا حرمة الهدي بأن يأخذوه على صاحبه أو يحولوا بينه وبين المكان الذي يهدى إليه، وعطف الهدي على الشعائر مع دخوله تحتها لقصد التنبيه على مزيد خصوصيته والتشديد في شأنه.
قوله: {وَلاَ القلائد} جمع قلادة، وهي ما يقلد به الهدي من نعل أو نحوه. وإحلالها: بأن تؤخذ غصباً، وفي النهي عن إحلال القلائد تأكيد للنهي عن إحلال الهدي. وقيل: المراد بالقلائد: المقلدات بها، ويكون عطفه على الهدي لزيادة التوصية بالهدي، والأوّل أولى. وقيل: المراد بالقلائد: ما كان الناس يتقلدونه أمنة لهم، فهو على حذف مضاف، أي ولأصحاب القلائد. قوله: {ولا آمِّينَ البيت الحرام} أي قاصديه من قولهم أممت كذا أي قصدته. وقرأ الأعمش: {ولا آمي البيت الحرام} بالإضافة. والمعنى: لا تمنعوا من قصد البيت الحرام لحجّ أو عمرة أو ليسكن فيه. وقيل: إن سبب نزول هذه الآية أن المشركين كانوا يحجون ويعتمرون ويهدون فأراد المسلمون أن يغيروا عليهم، فنزل: {يَأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَائِرَ الله} إلى آخر الآية فيكون ذلك منسوخاً بقوله: {اقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} [التوبة: 5]، وقوله: {فَلاَ يَقْرَبُواْ المسجد الحرام بَعْدَ عَامِهِمْ هذا}
[التوبة: 28]، وقوله صلى الله عليه وسلم: «لا يحجنّ بعد العام مشرك» وقال قوم: الآية محكمة وهي في المسلمين.
قوله: {يَبْتَغُونَ فَضْلاً مّن رَّبّهِمْ ورضوانا} جملة حالية من الضمير المستتر في {آمِينٌ}. قال جمهور المفسرين: معناه: يبتغون الفضل والأرباح في التجارة، ويبتغون مع ذلك رضوان الله، وقيل كان منهم من يطلب التجارة ومنهم من يبتغي بالحج رضوان الله، ويكون هذا الابتغاء للرضوان بحسب اعتقادهم وفي ظنهم عند من جعل الآية في المشركين. وقيل: المراد بالفضل هنا: الثواب، لا الأرباح في التجارة.
قوله: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فاصطادوا} هذا تصريح بما أفاده مفهوم {وَأَنتُمْ حُرُمٌ} أباح لهم الصيد بعد أن حظره عليهم لزوال السبب الذي حرّم لأجله وهو الإحرام. قوله: {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَانُ قَوْمٍ} قال ابن فارس: جرم وأجرم ولا جرم بمعنى قولك: لا بدّ ولا محالة، وأصلها من جرم، أي كسب. وقيل: المعنى: لا يحملنكم. قاله الكسائي وثعلب، وهو يتعدّى إلى مفعولين، يقال: جرمني كذا على بغضك، أي حملني عليه، ومنه قول الشاعر:
ولقد طعنت أبا عيينة طعنة *** جرمت فزارة بعدها أن يغضبوا
أي جملتهم على الغضب.
وقال أبو عبيدة والفراء: معنى {لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ} لا يكسبنكم بغض قوم أن تعتدوا الحق إلى الباطل، والعدل إلى الجور، والجريمة والجارم، بمعنى الكاسب، ومنه قول الشاعر:
جريمة ناهض في رأس نيق *** يرى لعظام ما جمعت صليباً
معناه كاسب قوت. والصليب: الودك، ومنه قول الآخر:
يا أيها المشتكى عكلا وما جرمت *** إلى القبائل من قتل وإيئاس
أي كسبت، والمعنى في الآية: لا يحملنكم بغض قوم على الاعتداء عليهم، أولا يكسبنكم بغضهم اعتداءكم للحق إلى الباطل، ويقال: جرم يجرم جرماً: إذا قطع. قال عليّ بن عيسى الرماني: وهو الأصل، فجرم بمعنى حمل على الشيء لقطعه من غيره، وجرم بمعنى كسب لانقطاعه إلى الكسب، ولا جرم بمعنى حق لأن الحق يقطع عليه، قال الخليل معنى: {لاَ جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النار} [النحل: 62] لقد حقّ أن لهم النار.
وقال الكسائي: جرم، وأجرم لغتان بمعنى واحد: أي اكتسب. وقرأ ابن مسعود: {لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ} بضم الياء، والمعنى: لا يكسبنكم ولا يعرف البصريون أجرم، وإنما يقولون جرم لا غير. والشنآن: البغض. وقرئ بفتح النون وإسكانها، يقال شنيت الرجل أشنوه شناء ومشنأة وشنآناً كل ذلك: إذا أبغضته، وشنآن هنا مضاف إلى المفعول، أي بغض قوم منكم لا بغض قوم لكم.
قوله: {أَن صَدُّوكُمْ} بفتح الهمزة مفعول لأجله، أي لأن صدّوكم. وقرأ أبو عمرو، وابن كثير بكسر الهمزة على الشرطية، وهو اختيار أبي عبيد وقرأ الأعمش: {إن يصدوكم} والمعنى على قراءة الشرطية: لا يحملنكم بغضهم إن وقع منهم الصدّ لكم عن المسجد الحرام على الاعتداء عليهم.
قال النحاس: وأما {إن صدّوكم} بكسر إن فالعلماء الجلة بالنحو والحديث والنظر يمنعون القراءة بها لأشياء: منها أن الآية نزلت عام الفتح سنة ثمان، وكان المشركون صدّوا المؤمنين عام الحديبية سنة ست، فالصد كان قبل الآية وإذا قرئ بالكسر لم يجز أن يكون إلا بعده كما تقول: لا تعط فلاناً شيئاً إن قاتلك، فهذا لا يكون إلا للمستقبل وإن فتحت كان للماضي، وما أحسن هذا الكلام.
وقد أنكر أبو حاتم وأبو عبيدة {شنآن} بسكون النون، لأن المصادر إنما تأتي في مثل هذا متحركة وخالفهما غيرهما فقال: ليس هذا مصدراً، ولكنه اسم على وزن كسلان وغضبان.
ولما نهاهم عن الاعتداء أمرهم بالتعاون على البرّ والتقوى، أي ليقصد بعضكم بعضاً على ذلك، وهو يشمل كل أمر يصدق عليه أنه من البرّ والتقوى كائناً ما كان قيل إن البرّ والتقوى لفظان لمعنى واحد، وكرر للتأكيد.
وقال ابن عطية: إن البرّ يتناول الواجب والمندوب، والتقوى تختص بالواجب.
وقال الماوردي: إن في البرّ رضا الناس، وفي التقوى رضا الله، فمن جمع بينهما فقد تمت سعادته. ثم نهاهم سبحانه عن التعاون على الإثم والعدوان، فالإثم: كل فعل أو قول يوجب إثم فاعله أو قائله، والعدوان: التعدّي على الناس بما فيه ظلم، فلا يبقى نوع من أنواع الموجبات للإثم، ولا نوع من أنواع الظلم للناس، الذين من جملتهم النفس إلا وهو داخل تحت هذا النهي، لصدق هذين النوعين على كل ما يوجد فيه معناهما، ثم أمر عباده بالتقوى، وتوعد من خالف ما أمر به فتركه أو خالف ما نهى عنه ففعله، بقوله: {إِنَّ الله شَدِيدُ آلْعِقَابِ}.
وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن عباس في قوله: {أَوْفُواْ بالعقود} قال: ما أحل الله وما حرّم وما فرض، وما حدّ في القرآن كله لا تغدروا ولا تنكثوا.
وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد عن قتادة قال: هي عقود الجاهلية الحلف، وروى عنه ابن جرير أنه قال: ذكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: «وأوفوا بعقد الجاهلية ولا تحدثوا عقداً في الإسلام».
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر، عن الحسن في قوله: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأنعام} قال: الإبل والبقر والغنم.
وأخرج ابن جرير عن ابن عمر في قوله: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأنعام} قال: ما في بطونها، قلت: إن خرج ميتاً آكله؟ قال: نعم.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي، في شعب الإيمان، عن ابن عباس في قوله: {إِلاَّ مَا يتلى عَلَيْكُمْ} قال: الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهلّ لغير الله به، إلى آخر الآية، فهذا ما حرّم الله من بهيمة الأنعام.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {لاَ تُحِلُّواْ شَعَائِرَ الله} قال: كان المشركون يحجون البيت الحرام، ويهدون الهدايا، ويعظمون حرمة المشاعر، وينحرون في حجهم، فأراد المسلمون أن يغيروا عليهم، فقال الله: {لاَ تُحِلُّواْ شَعَائِرَ الله}. وفي قوله: {وَلاَ الشهر الحرام} يعني: لا تستحلوا قتالاً فيه {ولا آمِّينَ البيت الحرام} يعني: من توجه قبل البيت الحرام، فكان المؤمنون والمشركون يحجون جميعاً، فنهى الله المؤمنين أن يمنعوا أحداً حجّ البيت أو يتعرضوا له من مؤمن أو كافر، ثم أنزل الله بعد هذه الآية: {إِنَّمَا المشركون نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ المسجد الحرام بَعْدَ عَامِهِمْ هذا} [التوبة: 28] وفي قوله: {يَبْتَغُونَ فَضْلاً} يعني: أنهم يرضون الله بحجهم {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ} يقول: لا يحملنكم {شَنَانُ قَوْمٍ} يقول: عداوة قوم. {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى البر والتقوى} قال: البرّ ما أمرت به، والتقوى ما نهيت عنه.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه في الآية قال: شعائر الله: ما نهى الله عنه أن تصيبه وأنت محرم، والهدي: ما لم يقلد، والقلائد: مقلدات الهدي. {ولا آمِّينَ البيت الحرام} يقول: من توجه حاجاً.
وأخرج ابن جرير عنه في قوله: {لاَ تُحِلُّواْ شَعَائِرَ الله} قال: مناسك الحج.
وأخرج ابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية وأصحابه، حين صدهم المشركون عن البيت، وقد اشتدّ ذلك عليهم، فمر بهم أناس من المشركين، من أهل المشرق يريدون العمرة، فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: نصدّ هؤلاء كما صدّنا أصحابنا، فأنزل الله: {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ} الآية.
وأخرج أحمد وعبد بن حميد والبخاري في تاريخه عن وابصة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: «البرّ ما اطمأنّ إليه القلب واطمأنت إليه النفس، والإثم ما حاك في القلب وتردّد في الصدر وإن أفتاك الناس وأفتوك».
وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد، والبخاري، في الأدب، ومسلم والترمذي والحاكم والبيهقي، عن النواس ابن سمعان قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن البرّ والإثم، فقال: «البرّ حسن الخلق، والإثم ما حاك في نفسك وكرهت أن يطلع عليه الناس».
وأخرج أحمد وعبد بن حميد وابن حبان والطبراني، والحاكم وصححه، والبيهقي عن أبي أمامة، أن رجلاً سأل النبيّ صلى الله عليه وسلم عن الإثم، فقال: «ما حاك في نفسك فدعه» قال فما الإيمان؟ قال: «من ساءته سيئته، وسرّته حسنته، فهو مؤمن».


هذا شروع في المحرّمات التي أشار إليها سبحانه بقوله: {إِلاَّ مَا يتلى عَلَيْكُمْ}. والميتة قد تقدّم ذكرها في البقرة، وكذلك الدم، ولحم الخنزير، وما أهل به لغير الله، وما هنا من تحريم مطلق الدم مقيد بكونه مسفوحاً كما تقدّم، حملاً للمطلق على المقيد، وقد ورد في السنة تخصيص الميتة بقوله صلى الله عليه وسلم: «أحلّ لنا ميتتان ودمان، فأما الميتتان: فالحوت والجراد، وأما الدمان: فالكبد والطحال» أخرجه الشافعي، وأحمد، وابن ماجه والدارقطني والبيهقي وفي إسناده مقال، ويقوّيه حديث: «هو الطهور ماؤه والحلّ ميتته»، وهو عند أحمد وأهل السنن وغيرهم، وصححه جماعة منهم ابن خزيمة وابن حبان، وقد أطلنا الكلام عليه في شرحنا للمنتقى. والإهلال: رفع الصوت لغير الله كأن يقول: بسم اللات والعزى ونحو ذلك، ولا حاجة بنا هنا إلى تكرير ما قد أسلفناه، ففيه ما لا يحتاج الناظر فيه إلى غيره.
{والمنخنقة} هي التي تموت بالخنق: وهو حبس النفس، سواء كان ذلك بفعلها كأن تدخل رأسها في حبل أو بين عودين، أو بفعل آدميّ أو غيره.
وقد كان أهل الجاهلية يخنقون الشاة، فإذا ماتت أكلوها. {والموقوذة} هي التي تضرب بحجر أو عصا، حتى تموت من غير تذكية، يقال: وقَذَهَ يقَذُهَ وَقْذاً فهو وَقِيذٌ، والوقذ: شدّة الضرب، وفلان وقيذ، أي مثخن ضرباً، وقد كان أهل الجاهلية يفعلون ذلك، فيضربون الأنعام بالخشب لآلهتهم حتى تموت ثم يأكلونها، ومنه قول الفرزدق:
شغارةٌ تقِذ الفَصيلَ بِرِجْلها *** فطارةٌ لِقَوادِمِ الأظْفَارِ
قال ابن عبد البر: واختلف العلماء قديماً وحديثاً في الصيد بالبندق والحجر والمعراض، ويعني بالبندق: قوس البندقة، وبالمعراض: السهم الذي لا ريش له. أو العصا التي رأسها محدّد، قال: فمن ذهب إلى أنه وقيذ لم يجزه إلا ما أدرك ذكاته، على ما روى عن ابن عمر، وهو قول مالك وأبي حنيفة وأصحابه والثوري والشافعي، وخالفهم الشاميون في ذلك. قال الأوزاعي في المعراض: كله خرق أو لم يخرق، فقد كان أبو الدرداء وفضالة بن عبيد وعبد الله بن عمر ومكحول لا يرون به بأساً. قال ابن عبد البرّ: هكذا ذكر الأوزاعي عن عبد الله بن عمر، والمعروف عن ابن عمر ما ذكر مالك عن نافع، قال: والأصل في هذا الباب والذي عليه العمل وفيه الحجة، حديث عديّ بن حاتم، وفيه: «ما أصاب بعرضه فلا تأكل فإنه وقيذ»، انتهى.
قلت: والحديث في الصحيحين وغيرهما. عن عديّ قال: قلت: يا رسول الله، إني أرمي بالمعراض الصيد، فأصيب فقال: «إذا رميت بالمعراض فخرق فكله، وإن أصاب بعرضه فإنما هو وقيذ فلا تأكله»
فقد اعتبر صلى الله عليه وسلم الخرق وعدمه، فالحق: أنه لا يحلّ إلا ما خرق لا ما صدم، فلا بد التذكية قبل الموت وإلا كان وقيذاً. وأما البنادق المعروفة الآن: وهي بنادق الحديد التي تجعل فيها البارود والرصاص ويرمى بها، فلم يتكلم عليها أهل العلم لتأخر حدوثها، فإنها لم تصل إلى الديار اليمنية إلا في المائة العاشرة من الهجرة، وقد سألني جماعة من أهل العلم عن الصيد بها إذا مات ولم يتمكن الصائد من تذكيته حياً؟ والذي يظهر لي أنه حلال؛ لأنها تخرق وتدخل في الغالب من جانب منه وتخرج من الجانب الآخر، وقد قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح السابق: «إذا رميت بالمعراض فخرق فكله»، فاعتبر الخرق في تحليل الصيد.
قوله: {والمتردية} هي التي تتردى من علو إلى أسفل فتموت، من غير فرق بين أن تتردّى من جبل، أو بئر، أو مدفن، أو غيرها، والتردّي مأخوذ من الردى وهو الهلاك، وسواء تردّت بنفسها أو ردّها غيرها. قوله: {والنطيحة} هي فعيلة بمعنى مفعولة، وهي التي تنطحها أخرى فتموت من دون تذكية، وقال قوم أيضاً: فعيلة بمعنى فاعلة، لأن الدابتين تتناطحان فتموتان، وقال: نطيحة ولم يقل: نطيح مع أنه قياس فعيل، لأن لزوم الحذف مختص بما كان من هذا الباب، صفة لموصوف مذكور، فإن لم يذكر ثبتت التاء للنقل من الوصفية إلى الإسمية. وقرأ أبو ميسرة {والمنطوحة}.
قوله: {وَمَا أَكَلَ السبع} أي: ما افترسه ذو ناب كالأسد، والنمر، والذئب، والضبع، ونحوها، والمراد هنا: ما أكل منه السبع، لأن ما أكله السبع كله قد فنى، ومن العرب من يخص اسم السبع بالأسد، وكانت العرب إذا أكل السبع شاة، ثم خلصوها منه أكلوها، وإن ماتت، ولم يذكوها. وقرأ الحسن وأبو حيوة {السبع} بسكون الباء، وهي لغة لأهل نجد ومنه قول حسان في عتبة بن أبي لهب:
من يرجع العامَ إلى أهله *** فَما أكِيلُ السّبْع بالرَّاجعِ
وقرأ ابن مسعود: {وأكيلة السبع}. وقرأ ابن عباس: {وأكيل السبع}. قوله: {إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ} في محل نصب على الاستثناء المتصل عند الجمهور، وهو راجع على ما أدركت ذكاته من المذكورات سابقاً، وفيه حياة، وقال المدنيون: وهو المشهور من مذهب مالك، وهو أحد قولي الشافعي أنه: إذا بلغ السبع منها إلى ما لا حياة معه فإنها لا تؤكل. وحكاه في الموطأ عن زيد بن ثابت، وإليه ذهب إسماعيل القاضي، فيكون الاستثناء على هذا القول منقطعاً، أي حرمت عليكم هذه الأشياء، لكن ما ذكيتم فهو الذي يحلّ ولا يحرم، والأوّل أولى. والذكاة في كلام العرب: الذبح، قاله قطرب وغيره. وأصل الذكاة في اللغة: التمام، أي تمام استكمال القوّة، والذكاء حدة القلب، والذكاء سرعة الفطنة، والذكوة ما تذكى منه النار، ومنه أذكيت الحرب والنار: أوقدتهما، وذكاء اسم الشمس، والمراد هنا: إلا ما أدركتم ذكاته على التمام، والتذكية في الشرع: عبارة عن إنهار الدم، وفري الأوداج في المذبوح، والنحر في المنحور، والعقر في غير المقدور، مقروناً بالقصد لله، وذكر اسمه عليه.
وأما الآلة التي تقع بها الذكاة: فذهب الجمهور إلى أن كل ما أنهر الدم، وأفرى الأوداج فهو آلة للذكاة ما خلا السن والعظم، وبهذا جاءت الأحاديث الصحيحة.
قوله: {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النصب} قال ابن فارس: النصب: حجر كان ينصب فيعبد ويصبّ عليه دماء الذبائح. والنصائب حجارة تنصب حوالي شفير البئر فتجعل عضائد. وقيل: النصب: جمع واحده نصاب، كحمار وحمر. وقرأ طلحة بضم النون وسكون الصاد.
وروى عن أبي عمرو بفتح النون وسكون الصاد. وقرأ الجحدري بفتح النون والصاد، جعله اسماً موحداً كالجبل والجمل، والجمع أنصاب كالأجبال والأجمال، قال مجاهد: هي حجارة كانت حوالي مكة يذبحون عليها. قال ابن جريج: كانت العرب تذبح بمكة، وتنضح بالدم ما أقبل من البيت، ويشرّحون اللحم ويضعونه على الحجارة، فلما جاء الإسلام قال المسلمون للنبي صلى الله عليه وسلم: نحن أحقّ أن نعظم هذا البيت بهذه الأفعال، فأنزل الله: {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النصب} والمعنى: والنية بذلك تعظيم النصب لا أن الذبح عليها غير جائز، ولهذا قيل: إن {على} بمعنى اللام: أي لأجلها. قاله قطرب، وهو على هذا داخل فيما أهلّ به لغير الله، وخصّ بالذكر لتأكيد تحريمه، ولدفع ما كانوا يظنونه من أن ذلك لتشريف البيت وتعظيمه.
قوله: {وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ بالأزلام} معطوف على ما قبله، أي وحرّم عليكم الاستقسام بالأزلام، والأزلام: قداح الميسر واحدها: زلم، قال الشاعر:
بات يقاسيها غلام كالزّلم *** ليس براعي إبل ولا غنم
ولا بجزار على لحم وضم ***
وقال آخر:
فلئن جذيمة قتلت ساداتها *** فنساؤها يضربن بالأزلام
والأزلام للعرب ثلاثة أنواع: أحدها: مكتوب فيه افعل، والآخر: مكتوب فيه لا تفعل، والثالث: مهمل لا شيء عليه، فيجعلها في خريطة معه، فإذا أراد فعل شيء أدخل يده وهي متشابهة فأخرج واحداً منها، فإن خرج الأوّل فعل ما عزم عليه، وإن خرج الثاني تركه، وإن خرج الثالث أعاد الضرب حتى يخرج واحد من الأوّلين. وإنما قيل لهذا الفعل استقسام؛ لأنهم كانوا يستقسمون به الرزق، وما يريدون فعله، كما يقال استسقى: أي استدعى السقي، فالاستقسام: طلب القسم والنصيب. وجملة قداح الميسر عشرة، وقد قدّمنا بيانها، وكانوا يضربون بها في المقامرة، وقيل: إن الأزلام كعاب فارس والروم التي يتقامرون بها، وقيل: هي الشطرنج، وإنما حرّم الله والاستقسام بالأزلام؛ لأنه تعرّض لدعوى علم الغيب، وضرب من الكهانة.
قوله: {ذلكم فِسْقٌ} إشارة إلى الاستقسام بالأزلام، أو إلى جميع المحرمات المذكورة هنا.
والفسق: الخروج عن الحدّ، وقد تقدّم بيان معناه، وفي هذا وعيد شديد؛ لأن الفسق هو أشدّ الكفر، لا ما وقع عليه اصطلاح قوم من أنه منزلة متوسطة بين الإيمان والكفر. قوله: {اليوم يَئِسَ الذين كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ} المراد: اليوم الذي نزلت فيه الآية، وهو يوم فتح مكة، لثمان بقين من رمضان، سنة تسع. وقيل: سنة ثمان؛ وقيل المراد باليوم: الزمان الحاضر وما يتصل به، ولم يرد يوماً معيناً. و{يئس} فيه لغتان ييس بياءين يأساً، وأيس يأيس إياساً وإياسة. قاله النضر بن شميل، أي حصل لهم اليأس من إبطال دينكم، وأن يردوكم إلى دينهم، كما كانوا يزعمون {فَلاَ تَخْشَوْهُمْ} أي لا تخافوا منهم أن يغلبوكم أو يبطلوا دينكم {واخشون} فأنا القادر على كل شيء، إن نصرتكم فلا غالب لكم، وإن خذلتكم لم يستطع غيري أن ينصركم.
قوله: {اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} جعلته كاملاً غير محتاج إلى إكمال لظهوره على الأديان كلها وغلبته لها، ولكمال أحكامه التي يحتاج المسلمون إليها من الحلال والحرام والمشتبه، ووفى ما تضمنه الكتاب والسنة من ذلك، ولا يخفى ما يستفاد من تقديم قوله: {لَكُمْ}. قال الجمهور: المراد بالإكمال هنا: نزول معظم الفرائض والتحليل والتحريم. قالوا: وقد نزل بعد ذلك قرآن كثير كآية الربا وآية الكلالة ونحوهما. والمراد باليوم المذكور هنا: هو يوم الجمعة، وكان يوم عرفة بعد العصر في حجة الوداع سنة عشر، هكذا ثبت في الصحيح من حديث عمر بن الخطاب. وقيل: إنها نزلت في يوم الحجّ الأكبر.
قوله: {وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى} بإكمال الدين المشتمل على الأحكام، وبفتح مكة وقهر الكفار، وإياسهم عن الظهور عليكم، كما وعدتكم بقولي: {وَلأِتِمَّ نِعْمَتِى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 150] قوله: {وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِيناً} أي أخبرتكم برضاي به لكم فإنه سبحانه لم يزل راضياً لأمة نبيه صلى الله عليه وسلم بالإسلام فلا يكون لاختصاص الرضا بهذا اليوم كثير فائدة، إن حملناه على ظاهره، ويحتمل أن يريد رضيت لكم الإسلام الذي أنتم عليه اليوم {ديناً} باقياً إلى انقضاء أيام الدنيا. وديناً منتصب على التمييز، ويجوز أن يكون مفعولاً ثانياً.
قوله: {فَمَنِ اضطر فِى مَخْمَصَةٍ} هذا متصل بذكر المحرمات، وما بينهما اعتراض، أي من دعته الضرورة {فِى مَخْمَصَةٍ} أي مجاعة إلى أكل الميتة وما بعدها من المحرّمات. والخمص: ضمور البطن، ورجل خميص وخمصان، وامرأة خميصة وخمصانة، ومنه أخمص القدم، ويستعمل كثيراً في الجوع، قال الأعشى:
تبيتون في المشتاء ملأى بطونكم *** وجاراتكم غرثى يبتن خمائصاً
قوله: {غَيْرَ مُتَجَانِفٍ} الجنف: الميل، والإثم: الحرام أي حال كون المضطرّ في مخمصة غير مائل لإثم، وهو بمعنى غير باغ ولا عاد، وكل مائل فهو متجانف وجنف.
وقرأ النخعي ويحيى بن وثاب والسلمي: {متجنف} {فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} به لا يؤاخذه بما ألجأته إليه الضرورة في الجوع مع عدم ميله بأكل ما حرّم عليه إلى الإثم، بأن يكون باغياً على غيره، أو متعدياً لما دعت إليه الضرورة حسبما تقدّم.
وقد أخرج ابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه، والحاكم وصححه عن أبي أمامة قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قومي أدعوهم إلى الله ورسوله، وأعرض عليهم شعائر الإسلام، فبينما نحن كذلك، إذ جاءوا بقصعة دم واجتمعوا عليها يأكلونها، قالوا: هلم يا صدى، فكل، قلت: ويحكم إنما أتيتكم من عند من يحرّم هذا عليكم، لما أنزل الله عليه، قالوا: وما ذاك؟ قال: فتلوت عليهم هذه الآية: {حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة}.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم، والبيهقي في سننه عن ابن عباس في قوله: {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ} قال: وما أهلّ للطواغيت به {والمنخنقة} قال: التي تخنق فتموت {والموقوذة} قال: التي تضرب بالخشبة فتموت. {والمتردية} قال: التي تتردى من الجبل فتموت. {والنطيحة} قال: الشاة التي تنطح الشاة {وَمَا أَكَلَ السبع} يقول: ما أخذ السبع، {إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ} يقول: ذبحتم من ذلك، وبه روح فكلوه {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النصب} قال: النصب: أنصاب كانوا يذبحون ويهلون عليها {وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ بالأزلام} قال: هي القداح كانوا يستقسمون بها في الأمور. {ذلكم فِسْقٌ} يعني: من أكل ذلك كله فهو فسق.
وأخرج ابن أبي حاتم عنه قال: الرداة التي تتردّى في البئر. والمتردية التي تتردى من الجبل.
وأخرج ابن جرير عن سعيد بن جبير في قوله: {وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ بالأزلام} قال: حصى بيض كانوا يضربون بها.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن الحسن في الآية قال: كانوا إذا أرادوا أمراً أو سفراً يعمدون إلى قداح ثلاثة، يكتبون على واحد منها: أمرني، وعلى الآخر: نهاني، ويتركون الثالث مخللاً بينهما ليس عليه شيء ثم يجيلونها، فإن خرج الذي عليه: أمرني مضوا لأمرهم. وإن خرج الذي عليه: نهاني كفوا، وإن خرج الذي ليس عليه شيء أعادوها.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس في قوله: {اليوم يَئِسَ الذين كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ} قال: يئسوا أن يرجعوا إلى دينهم أبداً.
وأخرج البيهقي عنه في الآية قال: يقول يئس أهل مكة أن يرجعوا إلى دينهم عبادة، الأوثان أبداً {فَلاَ تَخْشَوْهُمْ} في اتباع محمد {واخشون} في عبادة الأوثان وتكذيب محمد، فلما كان واقفاً بعرفات نزل عليه جبريل وهو رافع يديه والمسلمون يدعون الله {اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} يقول: حلالكم وحرامكم، فلم ينزل بعد هذا حلال ولا حرام {وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى} قال: منتي، فلم يحج معكم مشرك {وَرَضِيتُ} يقول: اخترت {لَكُمُ الإسلام دِيناً} فمكث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد نزول هذه الآية أحداً وثمانين يوماً، ثم قبضه الله إليه.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر عنه قال: أخبر الله نبيه والمؤمنين أنه أكمل لهم الإيمان فلا يحتاجون إلى زيادة أبداً، وقد أتمه فلا ينقص أبداً، وقد رضيه فلا يسخطه أبداً.
وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن طارق بن شهاب قال: قالت اليهود لعمر: إنكم تقرءون آية في كتابكم، لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيداً، قال: وأيّ آية؟ قالوا: {اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} قال عمر: والله إني لأعلم اليوم الذي نزلت فيه على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والساعة التي نزلت فيها، نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم عشية عرفة في يوم جمعة.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {فَمَنِ اضطر} يعني: إلى ما حرّم مما سمي في صدر هذه السورة: {فِى مَخْمَصَةٍ} يعني: في مجاعة {غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ} يقول: غير متعمد لإثم.


هذا شروع في بيان ما أحله الله لهم، بعد بيان ما حرمه الله عليهم، وسيأتي ذكر سبب نزول الآية. قوله: {مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ} أي شيء أحلّ لهم، وأما الذي أحلّ لهم من المطاعم إجمالاً ومن الصيد، ومن طعام أهل الكتاب، ومن نسائهم، قوله: {قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطيبات} هي ما يستلذه آكله ويستطيبه مما أحله الله لعباده. وقيل: هي الحلال، وقد سبق الكلام في هذا. وقيل: الطيبات: الذبائح لأنها طابت بالتذكية، وهو تخصيص للعام بغير مخصص، والسبب والسياق لا يصلحان لذلك.
قوله: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مّنَ الجوارح} هو معطوف على الطيبات بتقدير مضاف لتصحيح المعنى: أي أحلّ لكم الطيبات وأحلّ لكم صيد ما علمتم من الجوارح، وقرأ ابن عباس ومحمد بن الحنفية: {عُلِمتم} بضم العين وكسر اللام أي علمتم من أمر الجوارح والصيد بها. قال القرطبي: وقد ذكر بعض من صنف في أحكام القرآن أن الآية تدل على أن الإباحة تناولت ما علمنا من الجوارح، وهو يتضمن الكلب، وسائر جوارح الطير، وذلك بموجب إباحة سائر وجوه الانتفاع فدلّ على جواز بيع الكلب، والجوارح، والانتفاع بها بسائر وجوه المنافع، إلا ما خصه الدليل وهو الأكل من الجوارح، أي الكواسب من الكلاب وسباع الطير. قال: أجمعت الأمة على أن الكلب إذا لم يكن أسود، وعلمه مسلم، ولم يأكل من صيده الذي صاده وأثر فيه بجرح، أو تنييب، وصاد به مسلم، وذكر اسم الله عند إرساله أن صيده صحيح، يؤكل بلا خلاف، فإن انخرم شرط من هذه الشروط دخل الخلاف، فإن كان الذي يصاد به غير كلب كالفهد وما أشبهه، وكالبازي والصقر ونحوهما من الطير فجمهور الأمة على أن كل ما صاد بعد التعليم فهو جارح كاسب، يقال: جرح فلان واجترح: إذا اكتسب، ومنه الجارحة لأنه يكتسب بها، ومنه اجتراح السيئات، ومنه قوله تعالى: {وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بالنهار} [الأنعام: 60]. وقوله: {أَمْ حَسِبَ الذين اجترحوا السيئات} [الجاثية: 21]. قوله: {مُكَلّبِينَ} حال، والمكلب: معلم الكلاب لكيفية الاصطياد، والأخصّ معلم الكلاب وإن كان معلم سائر الجوارح مثله، لأن الاصطياد بالكلاب هو الغالب، ولم يكتف بقوله: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مّنَ الجوارح} مع أن التكليب هو التعليم، لقصد التأكيد لما لا بدّ منه من التعليم. وقيل: إن السبع يسمى كلباً فيدخل كل سبع يصادّ به. وقيل: إن هذه الآية خاصة بالكلاب.
وقد حكى ابن المنذر عن ابن عمر أنه قال: ما يصاد بالبزاة وغيرها من الطير فما أدركت ذكاته فهو لك حلال، وإلا فلا تطعمه. قال ابن المنذر: وسئل أبو جعفر عن البازي هل يحلّ صيده؟ قال لا، إلا أن تدرك ذكاته.
وقال الضحاك والسدّي: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مّنَ الجوارح مُكَلّبِينَ} هي الكلاب خاصة، فإن كان الكلب الأسود بهيماً فكره صيده الحسن وقتادة والنخعي.
وقال أحمد: ما أعرف أحداً يرخص فيه إذا كان بهيماً، وبه قال ابن راهويه. فأما عامة أهل العلم بالمدينة والكوفة فيرون جواز صيد كل كلب معلم، واحتج من منع من صيد الكلب الأسود بقوله صلى الله عليه وسلم: «الكلب الأسود شيطان» أخرجه مسلم وغيره والحق أنه يحلّ صيد كل ما يدخل تحت عموم الجوارح، من غير فرق بين الكلب وغيره، وبين الأسود من الكلاب وغيره، وبين الطير وغيره، ويؤيد هذا أن سبب نزول الآية سؤال عديّ بن حاتم عن صيد البازي كما سيأتي.
قوله: {تُعَلّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ الله} الجملة في محل نصب على الحال أي مما علمكم الله، مما أدركتموه بما خلقه فيكم من العقل الذي تهتدون به إلى تعليمها، وتدريبها، حتى تصير قابلة لإمساك الصيد عند إرسالكم لها. قوله: {فَكُلُواْ مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} الفاء للتفريع، والجملة متفرّعة على ما تقدّم من تحليل صيد ما علموه من الجوارح، و(من) في قوله: {مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} للتبعيض، لأن بعض الصيد لا يؤكل كالجلد، والعظم، وما أكله الكلب ونحوه، وفيه دليل على أنه لا بد أن يمسكه على صاحبه، فإن أكل منه فإنما أمسكه على نفسه كما في الحديث الثابت في الصحيح.
وقد ذهب الجمهور إلى أنه لا يحلّ أكل الصيد الذي يقصده الجارح من تلقاء نفسه من غير إرسال.
وقال عطاء بن أبي رباح والأوزاعي وهو مرويّ عن سلمان الفارسي، وسعد بن أبي وقاص، وأبي هريرة وعبد الله بن عمر، وروي عن عليّ، وابن عباس والحسن البصري، والزهري وربيعة، ومالك، والشافعي في القديم، أنه يؤكل صيده، ويردّ عليهم قوله تعالى: {مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} وقوله صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم: «إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله عليه فكل ما أمسك عليك» وهو في الصحيحين وغيرهما، وفي لفظ لهما: «فإن أكل فلا تأكل، فإني أخاف أن يكون أمسك على نفسه» وأما ما أخرجه أبو داود، بإسناد جيد، من حديث أبي ثعلبة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله فكل وإن أكل منه» وقد أخرجه أيضاً بإسناد جيد من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه، وأخرجه أيضاً النسائي، فقد جمع بعض الشافعية بين هذه الأحاديث بأنه إن أكل عقب ما أمسكه فإنه يحرم لحديث عديّ بن حاتم، وإن أمسكه ثم انتظر صاحبه فطال عليه الانتظار، وجاع فأكل من الصيد لجوعه، لا لكونه أمسكه على نفسه، فإنه لا يؤثر ذلك، ولا يحرم به الصيد، وحملوا على ذلك حديث أبي ثعلبة الخشني، وحديث عمرو بن شعيب، وهذا جمع حسن.
وقال آخرون: إنه إذا أكل الكلب منه حرم لحديث عديّ، وإن أكل غيره لم يحرم للحديثين الآخرين؛ وقيل: يحمل حديث أبي ثعلبة على ما إذا أمسكه وخلاه، ثم عاد فأكل منه، وقد سلك كثير من أهل العلم طريق الترجيح، ولم يسلكوا طريق الجمع لما فيها من البعد، قالوا: وحديث عديّ بن حاتم أرجح لكونه في الصحيحين.
وقد قررت هذا المسلك في شرحي للمنتقى بما يزيد الناظر فيه بصيرة.
قوله: {واذكروا اسم الله عَلَيْهِ} الضمير في {عَلَيْهِ} يعود إلى {مَا عَلِمْتُمُ} أي سموا عليه عند إرساله، أو لما أمسكن عليكم، أي سموا عليه إذا أردتم ذكاته.
وقد ذهب الجمهور إلى وجوب التسمية عند إرسال الجارح، واستدلوا بهذه الآية. ويؤيده حديث عدي بن حاتم الثابت في الصحيحين، وغيرهما بلفظ: «إذا أرسلت كلبك فاذكر اسم الله، وإذا رميت بسهمك فاذكر اسم الله» وقال بعض أهل العلم: إن المراد التسمية عند الأكل. قال القرطبي: وهو الأظهر، واستدلوا بالأحاديث التي فيها الإرشاد إلى التسمية وهذا خطأ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد وقت التسمية بإرسال الكلب وإرسال السهم، ومشروعية التسمية عند الأكل حكم آخر. ومسألة غير هذه المسألة، فلا وجه لحمل ما ورد في الكتاب والسنة هنا على ما ورد في التسمية عند الأكل، ولا ملجئ إلى ذلك، وفي لفظ في الصحيحين من حديث عديّ: «إن أرسلت كلبك وسميت فأخذ فكل» وقد ذهب جماعة إلى أن التسمية شرط، وذهب آخرون إلى أنها سنة فقط، وذهب جماعة إلى أنها شرط على الذاكر لا الناسي، وهذا أقوى الأقوال وأرجحها. قوله: {واتقوا الله إِنَّ الله سَرِيعُ الحساب} أي حسابه سبحانه، سريع إتيانه، وكل آت قريب.
قوله: {اليوم أُحِلَّ لَكُمُ الطيبات} هذه الجملة مؤكدة للجملة الأولى، وهي قوله: {أُحِلَّ لَكُمُ الطيبات} وقد تقدّم بيان الطيبات. قوله: {وَطَعَامُ الذين أُوتُواْ الكتاب حِلٌّ لَّكُمْ} الطعام اسم لما يؤكل، ومنه الذبائح، وذهب أكثر أهل العلم إلى تخصيصه هنا بالذبائح. وفي هذه الآية دليل على أن جميع طعام أهل الكتب من غير فرق بين اللحم وغيره حلال للمسلمين وإن كانوا لا يذكرون على ذبائحهم اسم الله، وتكون هذه الآية مخصصة لعموم قوله: {وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسم الله عَلَيْهِ} [الأنعام: 121]. وظاهر هذا أن ذبائح أهل الكتاب حلال، وإن ذكر اليهوديّ على ذبيحته اسم عزير، وذكر النصرانيّ على ذبيحته اسم المسيح. وإليه ذهب أبو الدرداء وعبادة بن الصامت، وابن عباس والزهري وربيعة، والشعبي ومكحول.
وقال عليّ وعائشة وابن عمر: إذا سمعت الكتابيّ يسمى غير الله فلا تأكل، وهو قول طاوس والحسن، وتمسكوا بقوله تعالى: {وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسم الله عَلَيْهِ} [الأنعام: 121] ويدل عليه أيضاً قوله: {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ} [النحل: 115] وقال مالك: إنه يكره ولا يحرم. فهذا الخلاف إذا علمنا أن أهل الكتاب ذكروا على ذبائحهم اسم غير الله، وأما مع عدم العلم فقد حكى الكيا الطبري وابن كثير الإجماع على حلها لهذه الآية، ولما ورد في السنة من أكله صلى الله عليه وسلم من الشاة المصلية التي أهدتها إليه اليهودية وهو في الصحيح، وكذا الجراب الشحم الذي أخذه بعض الصحابة من خيبر، وعلم بذلك النبي صلى الله عليه وسلم، وهو في الصحيح، أيضاً وغير ذلك.
والمراد بأهل الكتاب هنا اليهود والنصارى. وأما المجوس، فذهب الجمهور إلى أنها لا تؤكل ذبائحهم، ولا تنكح نساؤهم؛ لأنهم ليسوا بأهل كتاب على المشهور عند أهل العلم، وخالف في ذلك أبو ثور، وأنكر عليه الفقهاء ذلك، حتى قال أحمد بن حنبل: أبو ثور كاسمه، يعني في هذه المسألة، وكأنه تمسك بما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً أنه قال في المجوس: «سنوا بهم سنة أهل الكتاب»، ولم يثبت بهذا اللفظ، وعلى فرض أن له أصلاً ففيه زيادة تدفع ما قاله، وهي قوله: «غير آكلي ذبائحهم، ولا ناكحي نسائهم» وقد رواه بهذه الزيادة جماعة ممن لا خبرة له بفنّ الحديث من المفسرين والفقهاء، ولم يثبت الأصل ولا الزيادة، بل الذي ثبت في الصحيح أن النبي أخذ الجزية من مجوس هجر، وأما بنو تغلب فكان عليّ بن أبي طالب ينهى عن ذبائحهم لأنهم عرب، وكان يقول: إنهم لم يتمسكوا بشيء من النصرانية إلا بشرب الخمر، وهكذا سائر العرب المتنصرة كتنوخ وجذام، ولخم، وعاملة، ومن أشبههم. قال ابن كثير: وهو قول غير واحد من السلف والخلف.
وروي عن سعيد بن المسيب والحسن البصري إنهما كانا لا يريان بأساً بذبيحة نصارى بني تغلب.
وقال القرطبي: وقال جمهور الأمة إن ذبيحة كل نصراني حلال، سواء كان من بني تغلب، أو من غيرهم، وكذلك اليهودي. قال: ولا خلاف بين العلماء أن ما لا يحتاج إلى ذكاة كالطعام يجوز أكله.
قوله: {وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ} أي وطعام المسلمين حلال لأهل الكتاب، وفيه دليل على أنه يجوز للمسلمين أن يطعموا أهل الكتاب من ذبائحهم، وهذا من باب المكافأة والمجازاة وإخبار المسلمين بأن ما يأخذونه منهم من أعراض الطعام حلال لهم، بطريق الدلالة الالتزامية.
قوله: {والمحصنات مِنَ المؤمنات} اختلف في تفسير المحصنات هنا، فقيل: العفائف، وقيل: الحرائر. وقرأ الشعبي بكسر الصاد، وبه قرأ الكسائي.
وقد تقدّم الكلام في هذا مستوفي في البقرة والنساء.
والمحصنات مبتدأ، ومن المؤمنات وصف له، والخبر محذوف، أي حلّ لكم، وذكرهنّ هنا توطئة وتمهيداً لقوله: {والمحصنات مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ} والمراد بهنّ: الحرائر دون الإماء، هكذا قال الجمهور، وحكى ابن جرير عن طائفة من السلف أن هذه الآية تعمّ كل كتابية حرةّ أو أمة. وقيل: المراد بأهل الكتاب هنا الإسرائيليات، وبه قال الشافعي، وهو تخصيص بغير مخصص.
وقال عبد الله بن عمر: لا تحلّ النصرانية، قال: ولا أعلم شركاً أكبر من أن تقول ربها عيسى، وقد قال الله {وَلاَ تَنْكِحُواْ المشركات حتى يُؤْمِنَّ} الآية [البقرة: 221]، ويجاب عنه بأن هذه الآية مخصصة للكتابيات من عموم المشركات فيبنى العام على الخاص.
وقد استدل من حرّم نكاح الإماء الكتابيات بهذه الآية لأنه حملها على الحرائر، وبقوله تعالى: {فَمِنْ مَّا مَلَكَتْ أيمانكم مّن فتياتكم المؤمنات} [النساء: 25] وقد ذهب إلى هذا كثير من أهل العلم وخالفهم من قال: إن الآية تعم أو تخصّ العفائف كما تقدّم. والحاصل أنه يدخل تحت هذه الآية الحرّة العفيفة من الكتابيات على جميع الأقوال، إلا على قول ابن عمر في النصرانية، ويدخل تحتها الحرّة التي ليست بعفيفة، والأمة العفيفة، على قول من يقول إنه يجوز استعمال المشرك في كلا معنييه، وأما من لم يجوز ذلك فإن حمل المحصنات هنا على الحرائر لم يقل بجواز نكاح الأمة، عفيفة كانت أو غير عفيفة، إلا بدليل آخر، ويقول بجواز نكاح الحرّة عفيفة كانت أو غير عفيفة، وإن حمل المحصنات هنا على العفائف قال بجواز نكاح الحرة العفيفة، والأمة العفيفة، دون غير العفيفة منهما.
قوله: {إِذَآ آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنّ} أي مهورهنّ، وجواب {إذا} محذوف أي فهنّ حلال، أو هي ظرف لخبر المحصنات المقدر أي حلّ لكم. قوله: {مُّحْصِنِينَ} منصوب على الحال، أي حال كونكم أعفاء بالنكاح، وكذا قوله: {غَيْرَ مسافحين} منصوب على الحال من الضمير في محصنين، أو صفة لمحصنين، والمعنى: غير مجاهرين بالزنا. قوله: {وَلاَ مُتَّخِذِى أَخْدَانٍ} معطوف على {غَيْرَ مسافحين} أو على {مسافحين}. {وَلاَ} مزيدة للتأكيد، والخدن يقع على الذكر والأنثى، أي لم يتخذوا معشوقات، فقد شرط الله في الرجال العفة، وعدم المجاهرة بالزنا، وعدم اتخاذ أخدان، كما شرط في النساء أن يكنّ محصنات {وَمَن يَكْفُرْ بالإيمان} أي بشرائع الإسلام {فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} أي بطل، {وَهُوَ فِى الآخرة مِنَ الخاسرين} وقرأ ابن السميفع: {فقد حبط} بفتح الباء ا ه.
وقد أخرج ابن جرير، وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني، والحاكم وصححه والبيهقي في سننه، عن أبي رافع؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره بقتل الكلاب في الناس، فقالوا: يا رسول الله، ماذا يحلّ لنا من هذه الأمة التي أمرت بقتلها؟ فسكت النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ} الآية.
وأخرج ابن جرير عن عكرمة نحوه.
وأخرج أيضاً عن محمد بن كعب القرظي نحوه.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن سعيد بن جبير، أن عدّي بن حاتم وزيد بن المهلهل الطائيين، سألا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالا: يا رسول الله، إنا قوم نصيد بالكلاب والبزاة فنزلت.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن الشعبي؛ أن عدّي بن حاتم الطائيّ أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله، فذكر نحوه.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر وابن أبي حاتم، والبيهقي في سننه عن ابن عباس في قوله: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مّنَ الجوارح مُكَلّبِينَ} قال: هي الكلاب المعلمة، والبازي والجوارح يعني الكلاب والفهود والصقور وأشباهها.
وأخرج ابن جرير عنه قال: آية المعلم أن يمسك صيده فلا يأكل منه حتى يأتي صاحبه.
وأخرج عنه أيضاً قال: إذا أكل الكلب فلا تأكل، فإنما أمسك على نفسه.
وأخرج عبد بن حميد عنه نحوه، وإذا أكل الصقر فلا تأكل لأن الكلب تستطيع أن تضر به والصقر لا تستطيع.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم، والبيهقي في سننه عنه في قوله: {وَطَعَامُ الذين أُوتُواْ الكتاب} قال: ذبائحهم، وفي قوله: {والمحصنات مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ} قال: حلّ لكم {إِذَآ آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنّ} يعني مهورهنّ {مُّحْصِنِينَ} يعني تنكحونهنّ بالمهر والبينة {غَيْرَ مسافحين} غير متغالين بالزنا {وَلاَ مُتَّخِذِى أَخْدَانٍ} يعني يسرّون بالزنا.
وأخرج عبد بن حميد، عن قتادة في قوله: {والمحصنات مِنَ المؤمنات والمحصنات مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُم} قال: أحلّ الله لنا محصنتين محصنة مؤمنة ومحصنة من أهل الكتاب، نساؤنا عليهم حرام، ونساؤهم لنا حلال.
وأخرج ابن جرير عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نتزوج نساء أهل الكتاب ولا يتزوجون نساءنا».
وأخرج عبد الرزاق وابن جرير عن عمر بن الخطاب قال: المسلم يتزوّج النصرانية ولا يتزوج النصرانيّ المسلمة.
وأخرج الطبراني، والحاكم وصححه عن ابن عباس قال: إنما أحلت ذبائح اليهود والنصارى من أجل أنهم آمنوا بالتوراة والإنجيل.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد في قوله: {والمحصنات مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب} قال الحرائر.
وأخرج عبد بن حميد عن الضحاك قال: العفائف.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8